المثل السوداني "أب منقود لو ما قيس ما ليس" - شرح شامل وحصري
يُعتَبر المثل السوداني الشهير "أب منقود لو ما قيس ما ليس" أحد أشهر الحكم الشعبية في السودان، ويحمل في طياته حكمة اجتماعية عميقة. ينتمي هذا المثل إلى التراث السوداني المميز بثقافته الاجتماعية والأدبية الخاصة
. كما أن الأمثال الشعبية في السودان تعبر عن حقائق ثقافية نافذة على واقع المجتمع، وغالبًا ما توصف بأنها "عبارات صغيرة من الحقيقة". سنستعرض في هذا المنشور الإعلاني الحصري شرحًا مفصلاً ومتكاملاً لهذا المثل لمساعدتكم على فهم معناه وأصله وخلفيته.
تعريف المثل
المثل "أب منقود لو ما قيس ما ليس" يتكوَّن من كلمات تحمل معانٍ قد تبدو غامضة، ولكنه يجمع في طياته حكمة شعبية ذات مغزى. كلمة "أب" تشير في اللهجة السودانية إلى الوالد أو الأب الروحي، وهي هنا تُستخدم مجازيًا. أما "منقود" فربما تعني في العامية شيئًا معلقًا أو مثقلًا، على غرار مشتق من الفعل "نقَد" بمعنى التقييم. وكلمة "قيس" تعني المقياس أو الوزن الذي يُستخدم في القياس والتقدير. أما كلمة "ليس" فتعني النفي والعدم. وعليه، يصبح المعنى الحرفي للمثل: "الأب المنقود، إن لم يُقَسْ (ويُوزَّن) فلا قيمة له".
في التفسير المجازي، يرى البعض أن المثل يعكس أهمية إثبات القيمة عمليًا. فالمعنى المتداول في السودان هو أن اللقب أو الادعاء ليس له قيمة حقيقية إذا لم يُدعم بالدليل. أي أن "الاسم بلا عمل كالهواء بلا وزن". وفي العامية السودانية قد يُقال: "قال كده ما يقول كيف"، أي إذا ادعى أحد شيئًا دون إثبات، فهو "ما ليس".
نبذة عن المثل
تُعبِّر هذه الصورة عن شاب سوداني في أحد الأسواق الشعبية في الخرطوم. غالبًا ما تُنتقل الأمثال شفهيًا بين عامة الناس في المشاهد اليومية كما في هذه الصورة، وتكون جزءًا من ثقافتهم المتوارثة. هذا المثل الشعبي "أب منقود لو ما قيس ما ليس" متداول بين السودانيين، وإن لم يُعرف بدقة من أول من قاله أو في أي مرحلة زمنية. عادةً ما تولد الأمثال الشعبية في أحاديث الأجداد ومجالس الشِعراء والعِباد، ثم تنتقل شفهيًا عبر الأجيال.
ولم يُدوَّن في الكتب تاريخ محدد لهذا المثل، فمن الصعب رصده في الوثائق. ومع ذلك، فإن هذا المثل أصبح مشهورًا ويتم استخدامه في سياقات مختلفة كجزء من مخزون الأمثال السودانية الفريدة. ومن الجدير بالذكر أن الأمثال الشعبية في السودان عادةً ما تكون غنية بالحكمة والنصح، فقد تحوي إشارات إلى حكمة قديمة أو سلوك اجتماعي متعارف عليه، حتى وإن جاء التعبير فيها بعبارات عامية مُبسّطة.
مناسبة استخدام المثل
يُستخدم المثل السوداني "أب منقود لو ما قيس ما ليس" في مواقف اجتماعية متنوعة، وغالبًا ما يُقال للتنبيه والنصح. من بين السياقات المعتادة:
-
عند مواجهة المتفاخرين: يقال هذا المثل عندما يتبجّح أحدهم بمكانته أو بعمل لم ينجزه بعد. إذ يُذكر المُدّعي بأنه إذا لم يثبت عمله أو يُقاس، فإنه "ما ليس"، أي لا قيمة له دون الدليل.
-
في التمييز والمعايير: يُستحضر المثل للتأكيد على أن المعايير ضرورية. فعندما يُجرى الحديث عن الشخصيات أو الألقاب، يُقال إن للأب مكانة فقط إذا اُقِيس حقه. بعبارة أخرى، أي تمييز لا يعتمد على المعيار الصحيح يُعتبر مضلِّلاً.
-
كتوبيخ ضمني: يستخدم الناس المثل للسخرية اللطيفة من متسرّعٍ في إصدار الأحكام. وكأن المثل يقول: "ما معنى الأب إن لم يُثبت أفعاله؟".
-
في مناقشات عن القادة: إذا ادعى زعيم محلي حكمة أو فضلًا دون إثبات جدي، فقد تُقال هذه العبارة للتقليل من فراغ ادعائه. يشير المثل هنا إلى ضرورة الاختبار الفعلي قبل الحكم على رتبة الشخص.
باختصار، المثل يُستعمل لتنبيه الآخرين إلى أهمية القياس والتثبت قبل الادعاء بأي صفة أو منصب.
وصف المثل
يتسم هذا المثل بأسلوبه الجذاب والمفاجئ. فهو يتألف من جملتين قصيرتين متوازيتين: الجزء الأول "أب منقود" يبدأ بتعبير غامض، ثم الجزء الثاني "لو ما قيس ما ليس" يأتي كتوضيح شرط وإلغاء. هذا الأسلوب يُشبه صناعة طباق مع الضد أو التضاد البلاغي في العبارة. ففي البداية تُطرح فكرة "الأب المنقود"، ثم يُنفى شأنها بالعبارة الشرطية "لو ما قيس ما ليس". استخدام "لو" الشرطية هنا يُزيد من وقع المثل، فمعنى المثل الكامل يكون: إذا لم يُخضع الأب للقياس، فهو لا شيء.
يعكس تركيب العبارة كذلك الخصوصية البلاغية للأمثال السودانية: جملة قصيرة بتلميحات قوية. يجمع المثل بين الغموض المباشر (في "أب منقود") والإيضاح في الجزء الثاني، فيشعر المستمع بالحكمة المبطنة. وكثيرًا ما يلجأ متحدثو العامية في السودان لهذه التقنية لجعل المثل أكثر إيقاعًا في الذهن. في هذا المثل، تبقى كلمة "منقود" كلفظة مفتوحة التفسير حتى يمنحنا الجزء الثاني "قيس" فهمًا لمضمونها.
شرح المثل
ترتبط الحكمة الكامنة في المثل بفكرة محورية: لا قيمة لشيء دون معيار واضح. يمكن تفسير هذا المثل وفقًا لنقاط رئيسية متعددة:
-
الاعتماد على الدليل والقياس: يقول المثل ضمنيًا إنه لا بد من قياس الشيء بعناية قبل الحكم عليه. فمثلًا، إذا كان "الأب" يُفهم هنا على أنه السلطة أو المكانة، فالمثل يحث على عدم تقديرها دون فحص وتحقيق. ومن ثم لا قيمة للاسم أو اللقب وحده دون إثبات صلاحيته بالأفعال.
-
التنبيه إلى العدالة والمعيار: يذكِّر المثل بأن التعامل مع الناس يجب أن يكون متّكئًا على معيارٍ عادل. فإذا لم يُقدَّر الشخص بما يستحق وفقًا لمعيار ما، فهو "ما ليس" — بمعنى أنه لا يرقى إلى مستوى الصفة التي ادعى امتلاكها.
-
إظهار التواضع وضبط النفس: يلفت المثل الانتباه إلى خطأ التكبّر أو الادعاء المُسبق دون أساس. فبالنسبة للمستمع، يذكِّره أن اللقب لا يكفي لمعرفة القيمة الحقيقية، وأن عليه أن يبقى متواضعًا حتى يثبت جدارته بالتجربة.
-
لمحة عن النقد الاجتماعي: من زاوية أخرى، قد يمس المثل نقدًا اجتماعيًا لاذعًا ضد من يستخدمون مناصبهم بلا استحقاق. ففي المجتمع السوداني، توحي كلمة "أب" بالاحترام، إلا أن المثل يبين أن الاحترام لا يُمنح إلا بالجدارة. فالقائد أو الشخص ذي السلطة يجب أن "يقاس" بأفعاله؛ وإلا فإنه "ما ليس" من منظور المثل.
بهذه التفسيرات المتعددة، يتبين أن المثل يركز دائمًا على مبدأ واحد: لا قيمة لشيء ما لم يتم التحقق منه أو تقييمه.
مميزات وعيوب المثل
مميزات المثل
-
إيجاز الحكمة: يُقدِّم المثل حكمة ثاقبة بعبارة قصيرة، مما يجعله سهل الحفظ ونقل الدرس بين الأجيال.
-
بلاغة وتعليم خفيف: يظهر المثل بأسلوب بلاغي جذاب (باستخدام الطباق الشرطي)، ما يجعله أكثر تأثيرًا وأقل حدة عند توصيل النقد.
-
تشجيع على الرزانة والصدق: بطرح فكرة التثبت والقياس، يشجع المثل الأفراد على الصدق والحيطة قبل التكبّر أو التزيين بالألقاب.
-
انعكاس للثقافة المحلية: يعكس المثل خصوصيات اللهجة والثقافة السودانية، مما يُعزز الانتماء الوطني والإدراك الثقافي لدى مستمعيه.
عيوب المثل
-
نبرة نقدية قد تؤذي: صياغة المثل تتضمن نفيًا قويًا لـ"الأب" بنهاية العبارة، ما قد يشعر البعض بالإهانة أو التقليل من شأنهم، خاصة إذا فهموا المثل حرفيًا.
-
غامض للأجانب وللأجيال الصاعدة: الكلمات العامية ("منقود" مثلاً) وطريقة التعبير قد تصعِّب فهم المعنى على غير السودانيين أو الأجيال الجديدة دون شرح.
-
تركيز سلبي: ينتهي المثل بـ"ما ليس"، وهو تعبير سلبي مطلق، ما يجعله شديد التشاؤم في نظر البعض؛ إذ يوحي بأن كل شيء لا قيمة له إن لم يكن مقرونًا بإثبات مُسبق.
-
تأويلات كثيرة: طبيعة المثل الغامضة تسمح بتفسيرات متنوعة، وقد يؤدي ذلك إلى سوء فهم أو جدل حول مقصوده الحقيقي بين الناس.
تاريخ المثل
لا توجد سجلات كتابية تحدد تاريخ "أب منقود لو ما قيس ما ليس" بدقة. فالأمثال الشعبية في السودان تنتقل شفهيًا من الجدّات والأجداد، وغالبًا ما يختفي مصدرها مع الزمن. بوجه عام، يعود أصل معظم الأمثال السودانية إلى الحياة الريفية والبدوية القديمة قبل مئات السنين. يشير الكثير من العلماء مثل مونة زكي إلى أن الأمثال الشعبية عادةً ما تكون غنية بالإشارات التاريخية والحِكم، لكن هذا المثل يبدو عامًا في استخدامه اليوم ولا يرتبط بشخصية أو حادثة محددة معروفة.
أصل المثل
يُرجَّح أن أصل هذا المثل يعود إلى الاستخدام العامي بين سكان السودان عبر الأجيال. لا ينتمي إلى قبيلة أو منطقة محددة، بل يُردده الناس في مختلف أنحاء البلاد. من الصعوبة بمكان تتبّع تطور العبارة وتحوّلها إلى مثل، لأن ذلك يشمل بقايا المخيال الشعبي الذي لا يُدوَّن كتابيًا. وعموماً، بقي المثل في صيغته هذه على حالها رغم تنقّله بين الناس، ككثير من الأمثال السودانية التي تحافظ على شكلها اللغوي الأصلي حتى مع تغير الأزمنة.
من قيل هذا المثل
لا يُعزى المثل إلى قائل معين، ويُعتبَر من الأمثال الشعبية المجمعة عن "السواد الأعظم" من الناس. فإذا بحثنا في كتب الأمثال، لن نجد مؤلفًا أو شاعرًا مشهورًا أول من قالها. في العادة، تُنسب الأمثال في الأدب الشعبي السوداني إلى "الأجداد" أو تُقال على لسان شخص حكيم غير معروف. لذلك، يعتبر هذا المثل – كما غيره من الأمثال – ملكًا للشعب السوداني كله، يتداولونه في مجالسهم من دون ذكر مصدر محدد.
آراء حول المثل
تتفاوت آراء الناس حول هذا المثل حسب خلفياتهم ووجهات نظرهم:
-
آراء إيجابية: يرى كثير من السودانيين أن المثل يحمل درسًا قيّمًا حول أهمية المعيار والتثبت. إذ يعتبره البعض نصيحة مجتمعية مفيدة لتذكير الناس بالتواضع وعدم المبالغة في الادعاء بدون دليل. ويذكر آخرون أنه مثال على الطرافة السودانية حيثُ تلتقي الحكمة مع الابتسامة.
-
آراء نقدية: في المقابل، ينتقد بعض الأشخاص أسلوب المثل قائلاً إنه قد يُفسر على أنه ذمّ شديد. فهم يشعرون أن نفي أي قيمة بـ"ليس" يُشعر المخاطب بالإحباط أو الجرح. كما يرى بعض دارسي التراث الشعبي أن المثل يميل إلى التشاؤم المطلق، إذ يؤكد أنه "ما ليس" مقابل كل شيء لم يُقاس.
باختصار، لم تتوصل دراسات رسميّة إلى تقييم شامل لهذا المثل تحديدًا؛ لذا يعتمد الأمر على التجربة الشخصية والخبرة الشعبية في تفسيره. إلا أن عموم السواد الأعظم يعتبر المثل درسًا يُطبَّق في المواقف التي تستدعي الحذر من التكبّر غير المبرر.
جميع جوانب المثل
في ختام هذا العرض التفصيلي، نؤكد أن المثل السوداني "أب منقود لو ما قيس ما ليس" يمثل حكمة مجسدة تدعو إلى التثبت والعدل في التقييم الاجتماعي. استعرضنا في هذا المنشور المعاني والدوافع التاريخية والدلالات الاجتماعية لهذا المثل، آملين أن نكون قد قدمنا شرحًا شاملاً يساعد على فهمه وتقدير أهميته. إن تعمقنا في الأمثال السودانية المحلية يزيد من وعي شعوبنا بتراثهم الاجتماعي والثقافي، وهو ما يضيف غنى لمخزوننا الفكري ويعزز هويتنا الوطنية. شكراً لقراءتكم ودمتم بخير.