المثل السوداني «الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه»: شرح شامل ومتكامل
تعريف المثل وبلدته
المثل الشعبي «الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه» هو من الأمثال الموروثة في الثقافة السودانية. كلمة «الما» في اللهجة السودانية تأتي بمعنى «الذي ليس له» أو «من لا يملك»، فيصبح المعنى الحرفي للمثل: (الذي ليس لديه [ابنه] لديها بنت مدفونة وهي حية). بعبارة أوضح، يوحي المثل بصورة مأساوية، حيث تنضم الكارثة إلى الكارثة؛ فالمثال يرسم حال شخص (غالباً امرأة) قد اضطرَّ إلى دفن ابنته وهي على قيد الحياة. هذا التعبير المجازي يلخص حالة من أشد البلاء والحزن، ويعكس درجة من الشقاء التي ربما لا تُقارن بمآسي أقل منها.
يعتبر هذا المثل من الأمثال الشعبية السودانية التي تنتقل شفهيًا عبر الأجيال لتلخيص المواقف والأحداث بدقة، فنجد أن الأمثال في السودان والعالم العربي عامةً “من الإرث المنقول عبر الأجيال” وتعبّر عن عصارة تجارب الشعوب وخبراتها. فقد ورد في دراسة أدبية سودانية أن الأمثال تنقل التجارب والخبرات من جيل إلى جيل عبر العصور، وأنها أشبه بـ«حصن دبلوماسي» للكلمات والتجارب الثقافية.
خلفية تاريخية وثقافية
تراث الأمثال في السودان غني وعميق، فهو جزء من التراث الشعبي الذي يعكس عادات وتقاليد المجتمع وقيمه. الأمثال السودانية تساهم في تشكيل اتجاهات وقيم المجتمع وترشد إلى الدروس والعبر عبر الزمن. فهي «عصارة تجارب وممارسات» متوارثة من الأجيال السابقة، وهذا ينطبق على مثل «الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه» أيضاً رغم عدم وجود سجل تاريخي دقيق يحدد زمن ظهوره.
مناظر ريفية في السودان: تعبِّر الأمثال السودانية مثل «الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه» عن الحياة اليومية والتجارب المأساوية التي عاشها الناس في الأرياف والمدن. يضيء هذا المثل جانبًا من العادات والتقاليد السودانية القديمة، حيث كان يُستخدم للتعبير عن أشد حالات الحزن والشقاء التي قد يمر بها الإنسان في حياته.
بشكل عام، لم يُذكر قائل محدد لهذا المثل؛ فهو كلمة مأثورة شعبية. كما يؤكد باحثون في الأدب الشعبي السوداني، الأمثال هي ملك مجاني لكل الناس و«لا طبقات لها»، تنتقل شفهياً في الأحاديث والمواقف. لذا فـ«الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه» ليس متعلقًا بشخص واحد بل هو من تراث الكلام السوداني المُجمع عليه، وقد جُمِع مثل هذا التعبير في قوائم الأمثال الشعبية كما في المصادر الموثقة.
معنى المثل وشرحه
هذا المثل يطرح بصورة فنية حال شخص محكوم عليه بالمصائب المتتابعة دون هوادة. من الناحية اللغوية، الصورة الواردة تعني امرأة دفنت ابنتها وهي على قيد الحياة، الأمر الذي يشير إلى مأساة غير مسبوقة. ومن هذا المنطلق يُفهم أن المثل يشير إلى أشد المآسي وأعظم الشدائد التي قد تحلّ بالإنسان. ففي حياة أي شخص ربما تكون هناك مشاكل صعبة، لكن دفن المرء ابنة له وهي حية يمثل أسوأ صورة للألم والحرمان، وبالتالي يستخدم المثل للدلالة على أن صاحب الموقف قد تجاوز حدود المحنة.
لا توجد مصادر موثوقة تشرح المثل بالتفصيل (كما هي حال كثير من الأمثال الشعبية)، لكن التفسير الشائع يتفق على أنه يعبر عن قمة الشقاء والبؤس. بمعنى مجازي، يقولون إن الشخص الذي «عندها بنت مدفونة وهو حي» قد انتهى مقامه من التعبير والسؤال، لأنه فقد أمله وأكبر آماله. ولهذا غالبًا ما يستخدم للدلالة على أوضاع يائسة أو للإشارة إلى أن الشخص في محنة أكبر بكثير من أن تهمه مشكلات بسيطة. فالمثل يصور مأساة مأساوية بعبارة واحدة، مما يجعله مؤثرًا وسهل التذكر.
مناسبة استخدامه وحالاته
غالبًا ما يستعمل مثل «الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه» في سياق السرد الحكائي الشعبي والمواقف اليومية التي تتطلب الإشارة إلى مصيبة عظيمة أو مقارنة حالة شخص بأخرى مريرة. قد يُقال على سبيل المثال عند الحديث عن امرأة فقدت ولدها بسبب حادث مأساوي، لبيان أن ربحها أو حزنها مختلف عن غيرها. أو يُستخدم بطابع مزاح أسود للسخرية اللاذعة أحيانًا، كأن يُقال للرجل المتشائم: «هو أنت فاكر إن الدنيا صعبة عليك؟ شوف الأم الما عندها بنت مدفونة وهي حيّة»، أي لتقليل شأن مشكلته أمام فاجعة أكبر.
يظل هذا المثل متداولًا في الأحاديث اليومية والخطابات كسائر الأمثال السودانية. وأكّد الباحثة منى زاكي أن الأمثال لا تزال تنتشر في محادثات السودان وأيضًا في العناوين الصحفية والخطب الرسمية. ما يعني أن أي مثل بهذه القوة التعبيرية يستلزم سياقًا معينًا من الحزن أو البلاء حتى يُستحسن استخدامه. إلا أنه بطبيعة الحال قد لا يفهمه الجميع بسهولة، خاصةً الأجيال الجديدة، لكنه يبقى جزءًا من الرصيد اللغوي والثقافي للشعب السوداني.
مميزات المثل وعيوبه
يمكن تلخيص بعض الجوانب الإيجابية والسلبية لهذا المثل على النحو التالي:
-
قوّة التصوير والحفظ: المثل يستخدم صورة قوية لا تُنسى، وهي دفن الطفلة حيةً، ما يجعل معناها الأليم مرتبطًا ببصر السامع. هذه القوة البلاغية تجعل المثل شديد التأثير وسهل التذكر، وهو ما يساعد في تبليغ الفكرة (وهو أمر مرغوب في الأمثال الشعبية).
-
انتشار ثقافي: كغيره من الأمثال الشعبية، هو عبارة موجزة عن تجربة إنسانية عميقة، وتنقل عبر الأجيال دون حاجة إلى شرح مطول. بعبارة أخرى، تُمثِّل الأمثال ذات المعنى الكبير عصبًا ثقافيًا يساعد الجماعة على الاحتفاظ بحكمتها الشعبية.
-
مستخدم في البلاغة والسخرية: يُمكن أن يُوظف المثل بأساليب مختلفة (جدية أو ساخرة)، مما يمنحه مرونة لغوية. أحيانًا يُضرب المثل به للتقليل من شأن مشكلات بسيطة أمام كارثة أعظم.
-
طابعه المأسوي أو السلبي: من عيوب المثل أنه يحمل وصفًا مأساويًا ومؤلمًا قد يُعدّ قاسيًا للسامع. ذكر حادثة دفن بنت حيّة يُعتبر أمرًا مؤلمًا ومزعجًا، وقد يشعر البعض بالاستياء من استخدامه في المواضع الخفيفة.
-
عدم الوضوح للشباب: قد يجد الجيل الشاب صعوبة في فهم المثل لغلظة عبارته وعدم اعتيادهم عليها، مما يقلل من تداول المثل في المستقبل. وهذا يتماشى مع ملاحظة الباحثين أن بعض الأمثال القديمة قد تتلاشى تدريجيًا مع الزمن.
من أَقرره قائل المثل
مثل «الما عندها بنيه مدفونه وهى حيه» من الأمثال الشعبية العامة، لم يُنسب إلى مؤلِّف أو شخصية بعينها. هو من تلك العبارات التي تنشأ ضمن ثقافة شفوية جماعية، كما أوضحت المصادر عن الأمثال عموماً، إذ يُجمع عليها الناس ويُروّجونها في أحاديثهم دون أن يعرف لها مخترع معروف. لهذا يعتبرها علماء الأدب الشعبي تجربة مشتركة لمجتمع كامل، وليست ملكاً لغويًّا خاصًا بشخص.
آراء حول المثل واستخدامه
هناك تباين في نظرة الناس لهذا المثل كما هو الحال مع الأمثال القوية عمومًا. يرى البعض أنه مُعبِّر وحاد، إذ يستطيع اختصار معانٍ كبيرة في كلمات قليلة، وهو ما يميّز حكمة الإنسان المتوارثة. ومن وجهة نظر بحثية، يرى الخبراء أن الأمثال السودانية تعكس الطباع والقيم الاجتماعية الجيدة والسيئة على حد سواء. فمن جهة، تُشير تعبُّر الأمثال للمدى الأسى الذي يعيشه البعض، ومن جهة أخرى تُعزز الوقاية والأخلاق من خلال الأمثلة التي تدعو للعطاء والتعاون، كما يذكر المقال السوداني الثقافي.
من ناحية أخرى، يعتبر آخرون أن هذا المثل ذو طابع سلبي جداً، لأنه يستحضر صورة مؤلمة للغاية بدلاً من تشجيع التفاؤل أو العطاء. قد يُفضّل بعض الأعراف الشعبية أن تُختتم الحكايات أو النصائح بأمثال تحمل درسًا إيجابيًا، لكن هذا المثال يركِّز على مصيبة دون علاج واضح. وبما أن الأمثال أحيانًا تظهر في المناقشات النقدية أو الفكاهية، فقد يستخدمه البعض في المواقف الساخرة (أو لمزاح ثقيل) حول سوء حظ شخص ما.