-->
لا حول و لا قوة الا بالله

المثل السوداني "من دقيقي الموت أحسن": تعريف شامل وشرح مُفصَّل

مثل "من دقيقي الموت أحسن" هو أحد الأمثال الشعبية السودانية التي تصف شدة البخل والشح بطريقةٍ بليغة. يمثِّل هذا المثل قولاً ساخراً على لسان شخصٍ بشدّةٍ بخيلٍ لدرجة أنه يفضِّل الموت على فتح كيس دقيقه الخاص لمشاركة الآخرين. وبعبارة أخرى، فإن المقصود بالمثل أن رائد الشح يفضِّل الموت على أن ينفق جزءاً من طعامه (دقيقه) للجماعة. يعكس هذا التعبير اللهجة العامية السودانية (حيث يُطلق على الدقيق أحياناً لفظ "دقيقي")، ويفصح عن روح الدعابة السودانية الساخرية في مواجهة صفاتٍ اجتماعية مذمومة. ويُستخدم المثل للدلالة على الشخص شديد البخل الذي يضع قيمةً أسمى لممتلكاته الشخصيّة من حياته أو سعادة الآخرين. وقد فسَّر بعضهم هذا المثل بالإنجليزية قائلاً: “He who eats from the flour of his own soul, dies before he dies.” (وهو مثل مصري قديم) بمعنى “من يأكل من دقيق نفسه يموت قبل أن يموت”، مشيراً إلى أن الأنانية والجشع تؤذي النفس بالأساس.

سياق المثل ومناسبته

يُقال هذا المثل في المواقف التي يظهر فيها شخصٌ في غاية البخل والتقتير. مثلاً، عندما يشارِك بضعة أشخاص طعاماً جماعياً ينفد منهم الدقيق أو القوت، وإذا طلب منهم مشاركته دقيقه الخاص يردّ قائلًا: “من دقيقي الموت أحسن!”. هكذا يُضرب المثل كمبالغةٍ لاذعة، لبيان أن هذا الشخص لا يحقِّق أي تدنير في إنفاقِه ولن يشارك الآخرين ولا حتّى تفادي الموت. في الحياة اليومية السودانية يُلقى هذا المثل أحياناً بنبرة مزاح قاسية على شخصٍ متشحِّدٍ أو متدَنِّ ماليًّا يرفض الإنفاق حتى لأبسط احتياجات الآخرين. فهو بمثابة تحذيرٍ فكاهيٍ ومبالغةٍ تنبيهية في آنٍ واحد، تظهر كيف ينظر المجتمع السوداني إلى التقتير المبالغ فيه.

إن الأمثال السودانية عموماً تعكس تجارب وثقافة المجتمع السوداني، وتُستخدم في العُبريْن اليوميّة وفي الأحاديث العامية لتلخيص موقف أو نصيحة بحكمة قصيرة. ولعل أشهر التعابير لوصف الأمثال الشعبية أنها “رزم صغيرة من الحقيقة”، إذ تقدّم تجربتنا الشعبية بشفافية وتلقائية 

. ويُعد مثل "من دقيقي الموت أحسن" مثالاً على هذه الأساليب البلاغية في الأمثال: فهو يعكس حكمةً اجتماعيةً مفادها تحذير الناس من الأنانية المفرطة. ولا تزال الأمثال التقليدية (بما فيها هذا المثل) تُستخدم على نطاق واسع في السودان؛ فهي شائعة في الأحاديث اليومية وخطاب العامة وكلمات المسؤولين وحتى في عناوين الصحف السودانية.

شرح المثل ومعناه العميق

في ظاهر العبارة، نقول حرفياً: “من دقيقي (دقيق نفسي) الموت أحسن”، وكأن صاحب القول يشير إلى حِقْلِهِ الخاص (دقيق سفره) باعتباره حقلاً «نجساً» حتى أن الموت يُفضل عليه. والمقصود الضمني هو أنه يفضِّل الموت – وهو أصعب وأحلك الأقدار – على تخفيف شحمته والتنازل حتى عن مقدارٍ ضئيلٍ من قوته. بهذا المعنى، يُنذِر هذا المثل من خطورة الأنانية والجشع. إذ يقول مُفسِّرون إن المثل يحذّر من وضع الفرد لمصلحته الخاصة فوق حياة أو معيشة الآخرين، مما يؤدي في النهاية إلى «موت معنوي» فظيع للنفس. والمرجع الذي ورد في مدونة إنجليزية بالقول: “This proverb warns against selfishness and greed.” أي أن المثل يستخدم كي يشدّد على أن البخل الشديد يميت الروح قبل الجسد.

من الناحية البلاغية، يتضح أن المثل استخدم لغة مبالغة وكناية. فالرحالة السوداني أو الراوي الشعبي يخيل له أن الموت هنا سيأتي “من دقيقي” أي من نتيجة إبقاء الكيس فارغاً أو تعطيله، وكأنه عقاب إلهي بسوء ذنبه (البخل). هذا التشبيه الجريء يُضفي وقعاً قوياً على المثل، فجميع من يسمعه يفهم فوراً مدى المبالغة في تصوير البخيل المفرط. ومن ثم، فإن المثل يقدم رسالة أخلاقية ضمنية: إن التطرف في البخل والمادية له عواقب، وأن قيمة الحياة أعظم من أي كمٍّ مادي. وقد تعكس جملة المثل أيضًا توكيدًا ضمنيًا على التضامن الاجتماعي والعطاء، فالحديث باللهجة الشعبية يجعل من القُدوم على تقاسم الطعام اعتبارًا مقدسًا يتجاوز قيمة المال نفسه.

وفي الثقافة السودانية وغيرها، تنسجم هذه الفكرة مع أمثال أخرى تشجّع على الإنفاق والكرم أو الرضا بما هو متوفر. على سبيل المثال يقول مثل سوداني آخر: "على قد لحافك مد رجليك" أي لا تتجاوز إمكانياتك لئلا تنقلب الأمور ضدك. وقد رُوِيتْ قصة مفادها أن شخصًا أنفق أكثر من قدرته فانفقت موارده فجأة، فأدرك أن البخل كان أنجع وأن “من دقيقي الموت أحسن” لولا انه مضى عليه الزمن بنفسه. وفي هذا الإطار، يسهم مثل "من دقيقي الموت أحسن" في إلقاء الضوء على حدود الكرم والبخل، والمبالغة في أي منهما.

مميزات المثل وعيوبه

  • مميزات المثل: يأتي هذا المثل ببلاغةٍ شديدة ولغة بليغة خفيفة ظاهرة (فالتورية في كلمة “دقيقي”) يصعب نسيانها، فينشِّط الذاكرة الشعبية بسرعة. يُعتبر المثل حكمة مختصرة تعبر عن فكرة اجتماعية كبيرة (التحذير من البخل) بمفردةٍ قصيرة. كذلك، فهو يلقى استجابةً لدى المتلقِّي بسبب حس الفكاهة السودانية والواقعية التي يتضمنها. وللمثل قيمة تربوية لما يحمله من درس أخلاقي قوي، إذ يذكّر الناس بأن الشح الزائد يمكن أن يضر صاحبَه قبل غيره. كما أن تداول أمثالٍ مماثلة في المحافل العمومية والأحاديث اليومية يعزز الانتماء الثقافي، ويساعد على نقل قيم الجماعة وحكمتها عبر الأجيال.

  • عيوب المثل: على الجانب الآخر، قد ينتقد البعض هذا المثل لُطْفَه الحاد وطبيعته الاذعة. فمن الممكن أن يُعتبر الجواب “الموت أفضل” تهديدًا أو تجريحًا مبالغاً فيه، وقد يجرح مشاعر شخصٍ يعاني من شُحٍّ أو فقرٍ حقيقي؛ إذ قد يفهم المثل ضمنيًا أنه موجه لكل مقتصد أو ذي دخل محدود. كما أن استعمال المثل كسخريةٍ قد يفقده بعض الناس جديته كدرس أخلاقي، فينظرون إلى المتشدّدين اقتصاديًّا على أنهم “شخصياتٍ هزليةٍ”، بل قد يُشعر المثل بعض البخلاء بالحرج أو الغضب لو نُسب إليهم حرفيًا. ومن جهة بلاغية، يُلاحظ أن المثل يستخدم أسلوب المبالغة المفرطة (المبالغة البلاغية)، وقد ينصح بعض الدارسين بعدم الإفراط في استخدام هذا الأسلوب كي لا يُساء فهمه ويصبح عيباً في الموقف.

أصل المثل وتاريخه

بالرغم من شهرة المثل في السودان اليوم، لم يُستطَعْ العثور على مرجع تاريخي دقيق يبين متى أو أين ظهر بالتحديد. يبدو أن المثل من الأمثال الشعبية المتوارثة شفاهيًا، وربما نشأ في البيئة الريفية أو الحضرية السودانية منذ عقود طويلة. الأغلب أنه نتج عن تجربة مجتمعية – كقصة حاجب شح مع ركاب أو جيران – وانتشرت بين الناس، ثم رددتها الأجيال فقيلت عدة صيغ مع اللهجة الدارجة. ولا توجد سجلات مكتوبة معروفة لهذا المثل في المراجع الأدبية القديمة، وهو شائع بشكل أكبر بين كبار السن. والأمثال السودانّية في العموم تنقل عن طريق جدات وحكايات الأهل، وقد تتشابه مع أمثال عربية أخرى ذات معانٍ قريبة، لكن هذه العبارة المحددة "من دقيقي الموت أحسن" تحمل بصمة سودانية خاصة في اختيار لفظيَّتها. ولعل مَثَلاً قريبًا في الثقافة العربية يُقول: "عيش بسلام ولا تموت يمينًا" (أي تعيش سعداء ولا تُموت خائنًا)، لكن صيغة المثل السوداني فريدة في تصوير الموت كخيار مفضّل عن البخل. وبسبب افتقارنا لمصدر أكاديمي محدّد، يُنصَح بالنظر إلى هذا المثل على أنه من تراث الفلكلور الشعبي الذي يعكس حالة اجتماعية لا أكثر.

من قيل هذا المثل؟

يروي الناس في الموروث الشعبي أن هذا المثل بلهجة السودانيين قيل على لسان مسافرٍ شحيحٍ كان يتناول الطعام مع مجموعة من رفاقه. وحين نفدت حصة الطعام المشتركة (الدقيق) لدى الجميع، طلبوا منه فتح كيس دقيقه الخاص ليشاركهم، فارتعد (أي خشي) وصرخ عليهم: "من دقيقي الموت أحسن". الهدف من القصة هو إظهار حدة بُخل هذا الشخص، إذ استحى عليه أن يبقي جيبَه فارغاً بنصيبه من الدقيق وينسخه بنفسه بالموت. هذه الرواية الشعبية لم تُوثّق بمصادر تاريخية، لكنها تمرر شفاهيًا لكي تُضرب المثل على أي بخيلٍ من هذا الصنف.

لا يُعرف اسم هذا الشخص أو مسقط رأسه، فهو مجرد شخصية رمزية في الحكاية. وعلى الأرجح، يُضرب المثل به نحوٍ فكاهي أكثر من أي اعتبار حرفي أو تاريخي. فالمهم في المقولة ليس من قالها تحديدًا، وإنما الدلالة التي تحملها من انتقاد لاذع للبخل الشديد.

آراء وتحليلات حول المثل

يختلف الناس حول تفسير المثل وتطبيقه. يرى بعضهم أنه عبرة قوية تنقل درسًا واضحًا: أن البخيل المفرط لا ينام مرتاح الضمير، وقد يختار بأسف حتى الموت بدل العطاء. هؤلاء يعتبرون المثل حكماُ فعّالاً في تحذير أفراد المجتمع من نتائج الشح الزائد. من جهةٍ أخرى، يراه آخرون مجازاً مبالغاً فيه يتجاوز حدود اللياقة، فهو يستحضر الموت كخيارٍ لا يريده أحد. لذلك يستهزئ بعضهم بمثل من هذا النوع ويعتبرونه "مزحة سودانية حامية" تعكس روح السخرية المحلية، بدلاً من نصيحةٍ جدية. وهناك من ينتقد أمثالاً مشدّدة كهذه لرؤيتهم أنها قد تلغي مساحة التكافل والمساعدة؛ فالأفضل في نظرهم تسليط الضوء على قيمة العطاء والكرم دون تهديد الموت. على أية حال، فإن جميع الآراء تتفق على شمولية المثل وتطرُفه، وأنه يعبر عن موقف متطرف لأجل إيصال رسالة معينة.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد بعض دارسي الأمثال أن الأمثال السودانية عموماً تُستخدم بكثرة في الحياة اليومية وتظلّ حية في التراث الحديث. ولذلك، يطوّر بعض السودانيين شباباً أمثالاً جديدة مشابهة في الأسلوب تحمل نفس الروح الاجتماعية. ورغم ذلك يبقى “من دقيقي الموت أحسن” من أشهر تلك الأمثال التي تناقلها الناس كمثال تحذيري ساخر ضد الأنانية والشح.

الخلاصة

باختصار، يعتبر مثل "من دقيقي الموت أحسن" من الأمثال السودانية الشهيرة التي تصف البخل الشديد بمبالغة ساخرة. وهو مثل يعكس الحِكمة الشعبية السودانية المتوارَثة التي تبيّن كيف أن الجماعة السودانية تنتقد الأنانية وتقدّر الكرم والتقاسم. رغم قسوة عبارته الظاهرية، ينطوي المثل على نصيحة أخلاقية مهمة، ويبرز قدرة الأمثال على التعبير عن قيم المجتمع بضرباتٍ موجزةٍ من الحكمة والسخرية. كما أن تداوُل هذا المثل في الأحاديث والمحافل العامّة يؤكد مدى ارتباطه بأذهان الناس وصدقيته الشعبية.